«الناجي الوحيد».. شاهد مُتكرر على جرائم إسرائيل في غزة
«الناجي الوحيد».. شاهد مُتكرر على جرائم إسرائيل في غزة
باتت حياة الطفل محمود أبو شحمة (12 عامًا) أكثر قساوة بعدما استشهاد جميع أفراد أسرته بفعل قصف إسرائيلي استهدف منزلهم في 27 أكتوبر 2023، بمدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة.
ومنذ انتقال الطفل أبو شحمة للعيش مع خاله وحيدًا في إحدى مخيمات الإيواء، لا يزال يستذكر اللحظات المريرة التي مرت عليه في تكرار قصف المنزل مرتين ونجاته منهما.
يقول سليمان أبو شحمة، خال الطفل محمود، لـ"جسور بوست"، إنه "بات المُعيل الوحيد لابن أخته بعد استشهادها وزوجها وباقي أفراد الأسرة بغارة إسرائيلية راح ضحيتها أكثر من 20 شهيدًا"، بكثير من الأسى.
يتابع خال الطفل قائلاً: "تركت الحرب فينا ندوبًا لا يمكن التعافي منها بسهولة، فقدت أختي وزوجها، وبقي ابنهما وحيدًا يصارع الذكريات الأليمة، لقد تبددت أحلامه في اللعب مع أصدقائه، وبات ينطوي على نفسه معظم الوقت".
محمود هو واحد من آلاف الفلسطينيين الذين أباد الجيش الإسرائيلي عائلاتهم، وبقي منها فرد واحد، وهي تُقدّر بأكثر من 3,467 عائلة فلسطينية، بحسب آخر إحصائيات المكتب الإعلامي الحكومي.
على قيد الممات
في ذات المخيم، وفي خيمة مصنوعة من القماش والنايلون وبعض الأخشاب، يعيش الشاب الفلسطيني أنس جعرور (25 عامًا) وحيدًا مع أخيه ذي التسعة أعوام، هم مجمل من بقي من 22 شهيدًا قضوا في استهداف إسرائيلي مُباغت لمنزلهم بمدينة غزة في 23 أكتوبر 2023.
ومنذ نزوح هذا الشاب الفلسطيني إلى منطقة المواصي غرب مدينة خان يونس، وهو يعاني ألم الفقد والحرمان والنزوح المستمر الذي رافقه طيلة الحرب لأكثر من ست مرات، بدءًا من حي الصبرة بمدينة غزة مرورًا بمخيمات الإيواء في مدينة رفح وانتهاءً بمخيم البركة في مدينة خان يونس.
يقول جعرور لـ"جسور بوست": "أحاول أن أستعيد جزءًا من حياتي السابقة، لكن دون جدوى. كثيرًا ما أستذكر أفراد أسرتي حين كنا مجتمعين لتناول طعام الغداء قبل أن يباغتنا صاروخ إسرائيلي فرّقنا جميعًا. ومنذ تلك اللحظة قُلبت حياتي رأسًا على عقب".
لكن ما يواجهه هذا الشاب الفلسطيني الذي كان مفعمًا بالحياة، هو أكثر بكثير مما يعانيه شخص فقد أفراد أسرته، يقول جعرور: "أقوم على خدمة أخي الأصغر، فهو من تبقى لي من عائلتي، أشعر أنني بمثابة الأم والأب له، بالإضافة إلى كوني المُخفف عنه حمل هذه الحرب التي طالت أيامها".
ورغم كثرة الأعباء التي ألقيت على كاهل الشاب العشريني في تجهيز الطعام وغسل الملابس وتنظيف الأواني وتعليم شقيقه، فإنه ما زال يجد الوقت الكافي لحنين بات يأسر تفكيره في الشوق لكل أفراد أسرته الذين دفنوا تحت الركام والأنقاض.
بعينين أغرقهما الدمع، يقول جعرور: "لا يمكن أن أنسى لحظات الشوق لأبي، وأمي التي وعدتها بأن أصبح طبيبًا في المستقبل. كانت تحلم بأن تراني عريسًا، وتحمل أحفادها على كفّيها. لكن الحقد الإسرائيلي كان أكبر من أحلامنا التي قتلها وتركني وحيدًا".
قصة إسراء الحسنات
أما إسراء الحسنات (22 عامًا)، التي غادرت قطاع غزة مع زوجها قبيل اندلاع الحرب، واستشهد جميع أفراد أسرتها في قصف إسرائيلي لمخيم النصيرات، فهي تتمنى لو كانت مع أهلها في خضم هذه الحرب الطاحنة، كي لا تشعر بمأساة الحرب وتكابد الذكريات الموجعة وحدها.
تقول الحسنات لـ"جسور بوست": "رغم تواجدي خارج غزة، أخبار القطاع لم تنقطع. كنت على الدوام أتصل بوالدي ووالدتي، حتى في ظروف انقطاع الإنترنت، كنت أتصل عبر المكالمات الدولية لأطمئن عليهما".
تروي الناجية الوحيدة لأسرة مكونة من ستة أفراد أنها تعيش على ذكرى حزينة ومؤلمة، وهي تتفقد يوميًا صورهم ومقاطع الفيديو علّها تخفف من ذنبها في بُعدها عنهم، كما تقول.
تعود الفتاة الفلسطينية بذاكرتها المثقلة بالهموم إلى ما قبل الحرب الإسرائيلية، حين كانت تستعد لزيارة قطاع غزة خلال الإجازة الصيفية، لتحضر مراسم زفاف شقيقها أمجد.
وتضيف بكل أسى: "لم يكن أمجد إلا شابًا مكافحًا، يسعى لتجهيز شقته، وتوفير مهر عروسه وتكاليف الزفاف. لكن طيارًا إسرائيليًا قرر بكل برود إطفاء فرحتنا. أمجد الآن عريس في الجنة".
منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، انتشرت على شبكات التواصل الاجتماعي مقاطع مصوّرة تظهر عائلات فلسطينية مُسحت بالكامل من السجل المدني، فيما بقي من بعض هذه العائلات فرد واحد بات يعرف بالناجي الوحيد، ليكون الشاهد على وحشية الاحتلال في كل مجزرة ترتكبها إسرائيل إبان حرب الإبادة الجماعية.
تبعات نفسية قاسية
ورغم نجاة هؤلاء الأشخاص من موت كان محققًا، فإن كثيرًا منهم أصيب بما بات يُعرف بـ"عقدة الناجي الوحيد".
تقول الأخصائية النفسية إيمان عوض من مبادرة "أنقذوا غزة" إن هذه الشريحة أصيبت باضطرابات ما بعد الصدمة، وإن الظروف النفسية الصعبة التي يواجهونها تستلزم تدخلاً ودعمًا نفسيًا سريعًا لمحاولة التخفيف من أثر الفقد وعدم الاتزان النفسي والقلق والاكتئاب الذي يرافقهم.
وحول ما يسمى بعقدة الناجي الوحيد، تضيف عوض لـ"جسور بوست": "هو أمر متوقع غالبًا ويحدث نتيجة تفكير الفرد بأنه لم يلقَ نفس المصير الذي عانى منه أفراد أسرته، وأنه لن يكون قادرًا على مواجهة ظروف الحرب وتداعياتها دون تحقيق الأمن النفسي".
إلى جانب الأعراض التي قد تظهر عليهم جسديًا نتيجة الإصابة أو قلة الطعام، فإن عوض ترى، من خلال تعاملها مع بعض الناجين، أنهم يعانون نوبات الفزع والخوف الشديد والقلق والشعور بالذنب، والتبول اللاإرادي لدى الأطفال منهم.
تؤكد الأخصائية بالمبادرة أهمية تقديم الرعاية الصحية والنفسية لهؤلاء الناجين لحاجتهم الماسة لاسترجاع الشعور بالأمن والسلامة، وصولاً للمعافاة النفسية على المدى البعيد.
ادعاءات كاذبة
بدوره، أكد مدير الهيئة الدولية لحقوق الشعب الفلسطيني، صلاح عبد العاطي، أن الجيش الإسرائيلي وسّع خلال حربه ضد قطاع غزة استهداف المدنيين عبر انتهاج سياسة قصف المنازل على رؤوس ساكنيها، وهو ما زاد من كلفة الضحايا المدنيين بغض النظر عن أوضاعهم واعتباراتهم، مشيرًا إلى أن هذه المنازل لم تستخدم في أي أغراض عسكرية.
وأشار عبد العاطي في حديثه لـ"جسور بوست" إلى أن معظم هؤلاء الضحايا والناجين هم من الأطفال والنساء، وهو ما يدلل على التعمد في ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية.
وشدد الحقوقي الفلسطيني على أن ادعاءات إسرائيل كاذبة بشأن استهدافها المنازل والمستشفيات وخيام النازحين بأنه تم بموجب القانون الدولي، موضحًا أن القانون الدولي حمى هذه الأماكن حماية مطلقة، إلى جانب توفير حماية خاصة للأطقم الطبية والمدنيين وبخاصة النساء والأطفال وكبار السن.
من جانبه، أوضح نائب مدير دائرة البحث الميداني في المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، ياسر عبد الغفور، أن تقارير الباحثين في المركز خَلُصت منذ الأسابيع الأولى للهجوم العسكري الإسرائيلي على قطاع غزة إلى أن ما يجري هو جريمة إبادة جماعية يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين بنية واضحة ومعلنة وغير مُضمرة.
وبيّن عبد الغفور خلال حديثه لـ"جسور بوست" أن الجيش الإسرائيلي قتل عدة أجيال من العائلات التي استهدفها، عبر قتل الجد والابن وابن الابن والحفيد، وهو ما يدلل على أنه يرتكب إبادة ويسعى إلى إفناء الفلسطينيين.
ولفت الحقوقي الفلسطيني إلى أن كل ادعاءات إسرائيل عن استهداف مطلوبين هي محض كذب وافتراء، قائلاً: "الجيش يمتلك القدرات والإمكانات التي تمكّنه من استهداف أي مطلوب بعيدًا عن العائلات المدنية".
توثيق الجرائم الإسرائيلية وتحليلها القانوني، استنادًا لتعريف الإبادة الجماعية في نظام روما الذي حدد الإبادة الجماعية، يكشف بما لا يدع مجالاً للشك، بحسب عبد الغفور، أن إسرائيل تهدف لإهلاك الفلسطينيين وتدميرهم دون تمييز بين مدنيين ومقاتلين.
إسرائيل في قفص الاتهام
رغم ادعاء الجيش الإسرائيلي أن عملياته العسكرية تستند إلى قواعد القانون الدولي، فإن تقارير المنظمات الأممية والحقوقية تؤكد العكس.. وأشارت منظمة العفو الدولية مؤخرًا إلى أن إسرائيل تنفذ عمدًا جرائم إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة.
في تقريرها الصادر في ديسمبر 2024، أكدت المنظمة أن إسرائيل ارتكبت ثلاثة من الأفعال الخمسة المحظورة بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948، وهي القتل، وإلحاق أضرار بدنية أو نفسية جسيمة، وفرض ظروف معيشية تهدف إلى التدمير الجسدي للمجموعة المحمية.
ووثقت المنظمة وقوع 15 غارة جوية بين أكتوبر 2023 وأبريل 2024، أسفرت عن استشهاد 334 مدنيًا بينهم 141 طفلًا، وإصابة مئات آخرين، دون وجود أدلة على استهداف أهداف عسكرية. واعتبرت هذه الغارات جزءًا من نمط أوسع للهجمات المباشرة والمتعمدة ضد المدنيين والأعيان المدنية.
انتهاكات صارخة
ينص القانون الدولي الإنساني، وفقًا لاتفاقية جنيف لعام 1949، على ضرورة اتخاذ كل الاحتياطات لتجنب الإضرار بالمدنيين والأعيان المدنية أثناء العمليات العسكرية، كما تحظر القاعدة 54 من الاتفاقية استهداف الأعيان والمواد الضرورية لبقاء السكان المدنيين.
وتسببت الحرب الإسرائيلية على غزة منذ أكتوبر 2023 في استشهاد أكثر من 45 ألفًا وإصابة ما يزيد على 108 آلاف، إضافة إلى تدمير واسع للبنية التحتية والمناطق السكنية.
ويؤكد الخبراء القانونيون أن ذرائع الجيش الإسرائيلي بالدفاع عن النفس لا تبرر استهداف المنازل والمنشآت المدنية.